الحق في المدينة

ترجمة الحوار المتمدن

نعيشُ في عصرٍ أخذت فيه مُثُل حقوق الإنسان، سياسيًا وأخلاقيًا، وسط المسرح مستقرًّا لها، إذ أنَّ الطاقات تُستَنفذ لتأكيد أهميتها للسعي نحو صُنْعِ عالمٍ أفضل. ولكن هذه المفاهيم المتداولة يندر أن تتحدى جوهريًا مَنطِقيّ السوق الليبرالي والنيوليبرالي المُهيمِنيْن أو حتى الأنماط السائدة للقانونية وأنشطة الدولة. فنحن نعيش على أيِّ حال في عالمٍ تفوق فيه حقوق الملكية الخاصة ومعدل الربح كلَّ مفاهيم الحقوق الأخرى. أرغب هنا بالتطرق لنوعٍ آخر من حقوق الإنسان، ألا وهو الحق في المدينة.

هل ساهمت وتيرة التمدين ومستواها المُبهِريْن خلال قرنٍ مضى في تحسين رفاهية الإنسان؟ إنَّ المدينة، وفق كلمات عالم الاجتماع المديني روبرت بارك، «محاولةُ الإنسان الأنجح في إعادة تشكيل العالم الذي يعيش فيه وفق رغبات قلبه. ولكن، إن كانت المدينة العالمَ الذي خلقه الإنسان، فقد أصبحت العالمَ الذي حُكِمَ عليه العيش فيه. بالتالي، وبنحوٍ غير مباشر ودون أيِّ فهمٍ واضح لطبيعة مهمّته، في تشكيله المدينة، أعاد الإنسانُ تشكيلَ ذاته».

لا يمكن فصلُ مسألة نوع المدينة التي نرغب بها عن نوع الروابط الاجتماعية والعلاقة مع الطبيعة وأساليب الحياة والتقنيات والقيم الجمالية التي نرغب بها. يتجاوزُ الحقُّ في المدينة بكثير حريّةَ الفرد للوصول إلى الموارد المَدينيّة، فهو باختصار: الحق في تغيير أنفسنا عن طريق تغيير المدينة. وهو علاوةً على ذلك حقٌّ جمعي وليس فرديًا، إذ أنَّ هذا التحويل يتعمد لا محالة على ممارسة القوة الجمعية لإعادة تشكيل عملية التمدين. أودُّ أن أجادِل أنَّ الحريّة في تشكيل وإعادة تشكيل مُدنِنِا وأنفسنا أحدُ أثمن حقوق الإنسان وأكثرُها تعرُّضًا للإهمال.

منذُ ولادتها، نشأت المدن عبر التركُّزِ الجغرافي والاجتماعي لفائض الإنتاج. كان التمدين إذًا وما زال ظاهرةً طبقية، ذلك لأنَّ الفوائض تُستَخرَج من مكان ما ومن شخصٍ ما، بينما التحكم بتوزيعها يقتصر عادةً على أيدٍ قليلة. هذا الوضع العام مُستمِرٌّ في ظل الرأسمالية بالطبع، ولكن لأنَّ التمدين يعتمد على تحريك فائض الإنتاج، تنبثق علاقةٌ قريبة بين نموِّ الرأسمالية والتمدين. يجب على الرأسماليين إنتاج فائض إنتاجٍ لكي يُنتِجوا فائض قيمة، والذي بدوره يجب أن يُعادَ استثمارُه لتوليد فائض قيمة إضافي. ونتيجةُ إعادة الاستثمار المستمر هي توسيعُ فائض الإنتاج بمعدّلٍ مركب، ومن هنا تأتي المنحنيات اللوجستية (المال والمنتوج والسكان) المرتبطة بتاريخ مراكمة رأس المال، يوازيها مسار نمو التمدين في ظل الرأسمالية.

تُشكِّلُ سياساتِ الرأسمالية الحاجةُ الأزلية لإيجاد أراضٍ خصبة للتربح من إنتاج فائض رأس المال واستيعابه، ويُعرَض أمام الرأسماليّ أيضًا عددٌ من معيقات التوسع المستمر الخالي من المتاعب. إن كانت القوى العاملة ناضِبة وكانت الأجور مرتفعة، إمّا العمالة الحالية يجب ضبطُها – والسُبُل الرئيسية لذلك هي البطالة الناتجة عن التطور التقني والهجوم على قوّة الطبقة العاملة المنظمة – أو يجب إيجاد يدٍ عاملة طرية عبرَ الهجرة أو تصدير رأس المال أو تَكْدِيح[1] عناصرَ سكّانية ظلّت مستقلة حتى ذلك الحين. يجب على الرأسماليين أيضًا اكتشافُ وسائل إنتاجٍ جديدة عمومًا ومواردَ طبيعية جديدة تحديدًا، الأمرُ الذي يضغط بتزايد على البيئة الطبيعية لِتُنتِج المواد الخام الضرورية وتستوعب النفايات المحتومة. على الرأسماليين افتتاح الأراضي لاستخراج المواد الخام، وكثُرَ ما كانت هذه أهدافُ المساعي الإمبريالية والاستعمارية الجديدة.

تفرضُ قوانين التنافس القسريّة التجديدَ المستمر في التقنيات وأشكال التنظيم، حيث تُمكِّنُ هذه الأخيرة الرأسماليين من التغلب في منافستهم مع مستخدمي الوسائل الغثة، وتُنتِجُ الابتكاراتُ رغباتٍ وحاجاتٍ جديدة، وتخفِّض وقت تداور رأس المال وتقلل الاحتكاك الناتج عن المسافات، الأمر الذي يحدُّ من المدى الجغرافي الممكن للرأسمالي البحث فيه عن المزيد من الموارد العمالية والمواد الخام وهلم جرًا. وإن لم تتواجد قوّة شرائية كافية في السوق، يجب إيجادُ أسواقٍ جديدة عن طريق توسيع التجارة الخارجية، وترويج منتجاتٍ وأساليب حياةٍ مبتكرة، وخلق أدواتٍ ائتمانٍ جديدة، وتمويل النفقات العامة والخاصة عبر الديون. وإن ظلَّ معدل الربح أقلَّ مما يجب، توفِّرُ الدولة مخارجًا عبر تنظيمِ «المنافسة المدمِّرة» والاحتكار (عبر عمليات الدمج والاستحواذ) وتصديرُ رأس المال.

إنْ لم يتمكن الرأسماليّون من تجاوز أيٍّ من العوائق أعلاه، لن يتمكنوا من إعادة استثمار فائض إنتاجهم بربحيّة، وبذا تعاقُ مراكمة رأس المال مما يتركهم في وجه أزمةٍ يمكن لرأس مالهم فيها أن تُخفَض قيمته وفي بعض الحالات يُمحَى فيزيائيًا حتى. يمكن للسلع الفائضة أن تخسر قيمتها أو تُدمَّر، بينما الطاقة الإنتاجية والأصول يمكن ينخفض ثمنها أو تُتْرَك دونَ استخدام، والمال ذاتُه يمكن أن تُخْفَض قيمته عبر التضخم والعملُ كذلك عبر انتشار البطالة. إذًا، كيف دفَعَت الحاجة لتجاوز هذه المعيقات وتوسيع أرض النشاط المُربِح التمدينَ الرأسمالي؟ أجادِلُ هنا أنَّ التمدين لعب دورًا نشطًا جدًا إلى جانب ظواهر أخرى كالنفقة العسكرية في استيعاب فائض الإنتاج الذي يُنتِجه الرأسماليون سرمديًا في سعيهم نحو الربح.

الثورات المَدينية

أنظر أولًا حالة باريس الإمبراطورية الثانية. جلب عامُ 1848 أحد أولى أزمات فائض رأس المال غير المُوظَّف وفائض العمالة التي انتشرت بوضوح على مستوى أوروبي. كانت ضربةُ الأزمة في باريس بالأخص موجعة، وأدَّت لثورةٍ جهيضة شنَّها العمّال العاطِلون وأولئك الطوباويون البورجوازيون الذين رأوا في جمهوريةٍ اجتماعية ترياقًا للجشع والتفاوت الاجتماعي الذي اتَّسمَت به جمهورية يوليو. قمعَت البرجوازية الجمهورية الثوريين بِعنف ولكنها أخفقت في حلِّ الأزمة، وكانت نتيجة ذلك صعودُ لويس نابوليون بونابارت إلى السلطة، الرجل الذي دبَّرَ انقلابًا في 1851 ونصَّبَ ذاته إمبراطور العام التالي. ولكي ينجو سياسيًا، لجأ نابوليون إلى قمعٍ واسع النطاق للحركات السياسية البديلة، بينما تصدى للوضع الاقتصادي عبر برنامجٍ واسع من استثمارٍ في البنى التحتية داخليًا وخارجيًا. في الخارج، عنى ذلك إنشاءَ طُرُق سكك حديدية في كافة أنحاء أوروبا ووصولًا إلى المشرق، ودعمِ مشاريع كبرى مثل قناة السويس. وأما تمظهرُ ذلك في الداخل فكان توطيدَ شبكة السكك الحديدية وبناء المرافئ والموانئ وتجفيف الأهوار. والأهم من ذلك كلّه، ترتَّب على ذلك إعادةُ تهيئة البنية التحتية المَدينيّة لباريس. وقام نابوليون بإحضار جورج أوجين هوسمان ليتولى مسؤولية الأشغال العامة في المدينة في 1853.

أدركَ هوسمان بوضوح أنَّ مهمته كانت المساعدة على حل مشكلة فائض رأس المال والبطالة عن طريق التمدين. امتصَّت إعادةُ بناء باريس كميّاتٍ ضخمة من العمل ورأس المال بمعايير ذلك الوقت، وكانت – مع قمع طموحات القوى العاملة الباريسية – المحرِّكَ الرئيس للاستقرار الاجتماعي. استمدَّ هوسمان من الخطط الطوباوية التي ناقشها الفورييهيون والسانت سيمونيون في أربعينات القرن التاسع عشر لإعادة تشكيل باريس، ولكنه نفّذها بتغيير كبيرٍ واحد: نَقَلَ هوسمان عِيار تخيُّل عملية التمدين إلى مستوىً جديد. حين عرض المهندس المعماري جاك إجناس هتروف على هوسمان خططه لجادةٍ جديدة، رماها هوسمان عليه قائلًا: «ليست واسِعة كفاية…رسمتها بعرض 40 متر وأنا أريدها بعرض 120 متر». ألحقَ هوسمان الضواحي وأعاد تصميم أحياء كاملة مثل «ليهال» (القاعات). احتاج هوسمان لتنفيذ ذلك مؤسساتٍ مالية وأدوات ديونٍ جديدة، ألا وهي «الجمعية العامة للتسليف على المَنقول» (Crédit Mobilier) و«بنك التسليف العقاري» (Crédit Immobilier)، إذ أُسِّسَا وفق خطوطٍ سانت سيمونيّة. ساعد هوسمان فعليًا على حلّ مشكلة التخلص من فائض رأس المال عبر إعداد نظامٍ كينزي أولي (proto-Keynesian)، نظامٌ مُموَّل بالديون لتحسين البنية التحتية المَدينية.

عمِلَ النظام بشكلٍ جيد جدًا لحوالي خمسة عشر سنة، ولم يتضمن تحويلَ البنى التحتية المدينية فحسب، وإنما بناء طريقة حياة وشخصية مدينية جديدتين. أصبحت باريس «مدينة النور» ومركزَ الاستهلاك والسياحة والمتعة الكبير: الكافيهات والمتاجر متعددة الأقسام، وقطاع الأزياء والموضة، والمعارض الكبرى كُلَّها غيَّرت الحياة المدينية لتتمكن من استيعاب فوائض ضخمة عبر الاستهلاك. ولكنَّ المضاربة ونتج في 1868 انهيارُ النظام المالي وهياكل التسليف بسبب فرط توسعهما، وطُرِد هوسمان، وفي حالةٍ من اليأس شنَّ نابوليون الثالث حربًا ضدَّ ألمانيا بسمارك وخسر. نشأت كمونة باريس في الفراغ السياسي الناتج، وهي أحد أعظم الحلقات الثورية في التاريخ الرأسمالي المَديني، إذ شكَّلها جزئيًا حنينٌ للعالم الذي دمره هوسمان ورغبةٌ لدى من حَرمَتهم أشغالُه في استرداد المدينة.

فلنسّرِّع شريط الزمن إلى أربعينات القرن العشرين في الولايات المتحدة. حلَّت التعبئة الضخمة للمجهود الحربي مؤقتًا مشكلة التخلص من فائض رأس المال التي بدت مستعصية في الثلاثينات، وحلَّت أزمة البطالة التي أتت معها. ولكن الجميع كانوا خائفين مما سيحصل بعد الحرب، فالوضع كانَ خطيرًا سياسيًا: كانت الحكومة الفدرالية تُديرُ فعليًا اقتصادًا مُؤمَّمًا وكانت في تحالفٍ مع الاتحاد السوفييتي الشيوعي، وتزامن مع ذلك نشأة حركاتٍ اجتماعية قوية ذات ميولٍ اشتراكي في الثلاثينات. ومثلما حدث في عصر لويس بونابارت، صبَّت الطبقات الحاكمة في ذلك الوقت جُرعةً ثقيلة وصريحة من القمع السياسي، وتاريخُ المكارثية وسياسات الحرب الباردة التي تلت (وبوادرها كانت حاضرة وبوفرة حتى أوائل الأربعينات) مألوفٌ لدى الجميع. وأما على الصعيد الاقتصادي، بقيت مسألة كيفية استيعاب فائض رأس المال حاضرة.

في 1942، ظهر تقويمٌ مطوَّل لجهود هوسمان في مجلة «المنتدى المعماري» (Architectural Forum). وثَّقَ ذلك التقويم نشاطات هوسمان بالتفصيل وحاول تحليلَ أخطائه ولكن سعى لاسترداد سمعته كأحد أعظم مخططي المدن في التاريخ. هذه المقالة كتبها روبيرت موزيس عينه، الرجل الذي فعل بنيو يورك بعد الحرب العالمية الثانية ما فعله هوسمان بباريس، أي أنَّه غيّرَ عيارَ التفكير بعملية التمدين. ساعدَ موزيس على حلِّ مشكلة استيعاب فائض رأس المال عبر نظامِ الطرق السريعة وتحويلِ البنى التحتية وانبساط الضواحي (suburbanization) وإعادة هندسة المدينة لا بل مجمل حاضِرة نيويورك كليًّا. وبغاية تحقيق ذلك، استفاد من مؤسسات مالية وترتيباتٍ ضريبية جديدة حرَّرت الائتمان للتوسيع المديني الممول بالديون. وحين وُسِّعَت هذه المساعي إلى المستوى الوطني لتشمل كل المراكز المدينية الكبرى في الولايات المتحدة – وهي نقلة معياريّةٌ أخرى – لعبت هذه العملية دورًا حيويًا في تحقيق استقرار الرأسمالية العالمية بعد 1945، وهي فترةٌ أمكن الولايات المتحدة فيها إمداد كامل الاقتصاد العالمي غير الشيوعي بالطاقة عبر تدبير عجزٍ تجاري.

لم تكن مسألة انبساط الضواحي والانتقال لها في الولايات المتحدة محض مسألةِ بنىً تحتية جديدة. فكما في باريس الإمبراطورية الثانية، ترتب على ذلك تحويلٍ جذري في طرق المعيشة، جالبًا معه منتجاتٍ جديدة من الإسكان إلى الثلاجات والمكيِّفات، وسيّارتان واقفتان على مدخل السيارات الخاص بالمنزل وزيادةً مهولة في استهلاك المنتجات النفطية، وحوَّل أيضًا المشهد السياسي، حيث غيَّرت ملكية المنازل المدعومة للطبقات الوسطى تركيز النشاط المجتمعي نحو الدفاع عن أسعار العقار والهويات المُفَرَّدة، ناقِلًا أصوات سكّان الضواحي نحو جمهورياتية محافِظة. فمُلّاكُ المنازل المُثقَلون بالديون، هكذا جودِل، أقلُّ عرضةً للشروع في إضراب. امتص هذا المشروع الفائض بنجاح وضمن الاستقرار الاجتماعي، إنما بتكلفة تفريغ دواخِل المدن[2] وتوليد اضطراباتٍ مدينية لدى أولئك الذين حُرِموا من فرص الحصول على هذا الازدهار الجديد، يرأسهم الأمريكيون ذوي الأصول الأفريقية.

بحلول نهاية الستينات، بدأت أزمةٌ أخرى تتكشَّف: موزيس، مثل هوسمان، خسر منزلته وأصبحَ ينُظَر لحلولِه كحلولٍ غير مناسبة وغير مقبولة. احتفى التقليديون بِجين جيكوبس وسعوا لمناكفة حداثة مشاريع موزيس الوحشية بجماليّاتِ الأحياء الصغيرة. ولكن الضواحي بُنْيَت فعلًا والتغير الجذري في أساليب الحياة قد حصل حتى أنَّ هذا التغير كان له عواقب اجتماعية كثيرة، مما قاد النسويات، مثلًا، لإعلان الضواحي محورَ مظالمهن الرئيسة. إن كان للهوسمَنة دورٌ في ديناميات كمونة باريس، فخصال حياة الضواحي التي لا روح فيها لعبت أيضًا دورًا حيويًا في أحداث 1968 المثيرة في الولايات المتحدة. دخلَ طلاب بِيْض مستاؤون، من الطبقة الوسطى، مرحلةَ انتفاضٍ وسعوا للتحالف مع الجماعات المهمشة المُطالِبة بالحقوق المدنية واحتشدوا ضدّ الإمبريالية الأمريكية ليخلقوا حركة تهدف لبناء عالمٍ من نوعٍ آخر، بما في ذلك حياةٌ مدينية ذات نوعٍ مختلف.

في باريس، ساعدت حملة إيقاف بناء خطَّ الضفة الشرقية السريع وتدمير الأحياء التقليدية بواسطة العمالِقة الشواهِق مثل ساحة إيطاليا وبرج مونبارناس على تحريك البَكَرات الأكبر لانتفاضة 1968. ففي هذا السياق كَتَب هنري لوفيفر كتاب «الثورة المدينية»، إذ لم يتوقَّع فقط أنَّ التمدين مركزيٌّ لبقاء الرأسمالية وبالتالي يحتم أن يصبح المركز الحيوي للصراع السياسي والطبقي، إنما أنَّه يلغي تدريجيًا الفروق بين المدينة والريف عبر إنتاجِ حِيازٍ[3] مُدمَجة عبر الأراضي الوطنية، إن لم يتجاوزها. إنَّ الحقَّ في المدينة يجب أن يعني الحق في إدارة العملية المدينية بأكملها، إذ ازدادت سيادتها على الريف بتزايد عبر ظواهر مثل التجارة الزراعية والمنازل الثانية لسكان المدينة والسياحة الريفية.

ومع انتفاضة 68 أتت أزمةٌ مالية داخل مؤسسات الائتمان التي وفَّرت الوقود لطفرة العقار في العقود السابقة عبر التمويل بالديون. اكتسبت هذه الأزمة زخمها نهايةَ الستينات حتى انهار النظام الرأسمالي بمجمله، بدأً بانفجارِ فقاعة السوق العقارية العالمية في 1973، يتبعُها إفلاسُ مدينة نيو يورك المالي عام 1975. ردّةُ الفعل تجاه عواقِب الحدث الأخير هذا – وفق ويليام تاب – رادَت عمليًا بناءَ الجواب النيوليبرالي لمشاكل إدامة القوة الطبقية وإنعاش طاقة استيعاب الفوائض الواجب على الرأسمالية إنتاجُها لأجل بقائها.

تطويق الكوكب

دعنا نسرِّع شريط الزمن مرةً أخرى، هذه المرة إلى ظرفنا الحالي. ظلَّت الرأسمالية الدولية في تأرجحِ أزماتٍ وانهياراتٍ إقليمية (شرق وجنوب شرق آسيا في 1996-1998، وروسيا في 1998، والأرجنتين في 2001) ولكنها حتى وقتٍ قريب تجنبت انهيارًا عالميًا حتى في وجه العجز المزمن عن التخلص من فائض رأس المال. ما الدور الذي لعبه التمدين في الحفاظ على استقرار هذا الوضع؟ من المقولات المقبولة في الولايات المتحدة القول إنَّ قطاع الإسكان كان عنصر استقرار مهم للاقتصاد، وبالتحديد بعد أزمة قطاع التكنولوجيا المتقدمة التي حدثت أواخر التسعينات رغم أنّه كان عامِلَ توسِّعٍ فاعِل في الجزء المبكر من ذلك العقد. امتص سوقُ العقار مباشرةً مقدارًا كبيرًا من فائض رأس المال عبر إنشاء مراكز مدن ومنازِل ضاحَوْيّة ومبانٍ مكتبية، بينما عزَّزَ تضخم أسعار أصول الإسكان المتسارع – بدعمٍ من موجة تبذير في إعادةِ تمويل الرهون العقارية بأسعارِ فائدة منخفضة تاريخيًا – السوق الأمريكية المحلية للسلع والخدمات الاستهلاكية. حافظ التوسع المَديني الأمريكي جزئيًا على ثبات الاقتصاد العالمي، إذ اعتمدت الولايات المتحدة عجزًا تجاريًا ضخمًا مع بقية العالم، مقترِضةً حوالي ملياري دولار يوميًا لتزويد استهلاكيّتها الشَرِهة وحروبها في أفغانستان والعراق بالوقود.

ولكن العملية المدينية مرَّت بتحويلٍ معياريٍّ آخر. فهي، باختصار، أصبحت عالمية. ساعدت طفرات أسواق العقار في بريطانيا واسبانيا وغيرها العديد من البلدان على تشغيل دينامية رأسمالية بِطُرقٍ تماثِلُ عمومًا ما جرى في الولايات المتحدة. كان للتمدينِ في الصين خلال العشرين سنةٍ الماضية طبيعةٌ مختلفة، بتركيزه الشديد على تنمية البنى التحتية، ولكنَّهُ أكثرُ أهمية حتى من قرينه الأمريكي، فوتيرته قفزت بسرعة بعد ركودٍ وجيز في 1997، لدرجة أنَّ الصين استمدت قرابةَ نصف إمدادات الإسمنت العالمية منذ 2000، واجتازت أكثرُ من مئة مدينة تعدادَ المليون نسمة خلال هذه الفترة، ومناطقٌ كانت قرىً صغيرة سابقًا، مثل شنزن، أصبحت حاضِراتٍ ضخمة بتعدادٍ ما بين 6 إلى 10 مليون نسمة، وحوَّلَت مشاريعُ البنى التحتية الضخمة، منها السدود والطرق السريعة – كلُّها، مرةً أخرى، ممولة بالديون – المشهَد العام في البلاد. كانت حصائلُ ذلك للاقتصاد العالمي وامتصاص فائض رأس المال كبيرة: مرَّت تشيلي بطفرة بفضل سعر النحاس العالي، وأستراليا ازدهرت بل والبرازيل والأرجنتين انتعشتا جزئيًا نتيجةَ قوّة الطلب الصيني على المواد الخام.

هل تمدين الصين، إذًا، عامِلُ الاستقرار الرئيس للرأسمالية العالمية اليوم؟ الجوابُ يجب أن يكون نعم وبالتأكيد، فالصين ليست إلّا بؤرةُ عملية التمدين التي أصبحتَ عالمية حقًّا، جزئيًا عبر الإدماج المُبهِر للأسواق المالية التي استخدمت بدورها مرونتها لتمويل التنمية المدينية في أرجاء العالم بالديون. فعلى سبيل المثال، كان البنك المركزي الصيني فعّالًا في سوق الرهن العقاري الثانوية في الولايات المتحدة، بينما كان بنك غولدمان ساكس منخرطًا بشدة في سوق العقار البارز في مومباي، بينما رأس المال الهونغ كونغي استثمرَ في بالتيمور. وفي وسط سيلِ المهاجرين المُفقَرين، مرَّ العمران بطفرة في جوهانسبرغ، وتايبيه، وموسكو، وغيرها من المدن في البلدان الرأسمالية المركزية، مثل لندن ولوس أنجلوس. وانبثقت في الشرق الأوسط مشاريعُ تمدين ضخمٍ مُبهِرة – إن لم تكن مُجرِمة في لا معقوليّتها – في أماكن مثل دبي وأبو ظبي، ممتصَّةً الفائض الناتج عن ثروة نفطية بأكثرِ الطرق تفاخُرًا وأقصاها ظُلمًا وأشدِّها إتلافًا للبيئة.

يصعِّب هذا المعيار العالمي فهم أنَّ ما يجري حاليًا، من ناحية المبدأ، مماثِلُ للتحويلات التي أشرف عليها هوسمان في باريس، فطفرة التمدين العالمية اعتمدت، مثلها مثل سابقاتها، على تشييد مؤسساتٍ وترتيباتٍ مالية جديدة لتنظيم الائتمان اللازم لإبقائها. لعبت الابتكارات المالية التي أقلعت في الثمانينات – بتسنيدها وتغليفها الرهون العقارية المحلية لبيعها على المستثمرين عالميًا – دورًا حيويًا. تضمنت فوائدها العديدة توزيع المخاطر ومنح لأحواض فائض المدخرات وصولًا أسهل لطلب فائض الإسكان، وخَفْضَ أسعار الفائدة الكلية، وتوليد ثرواتٍ ضخمة للوسطاء الماليين الذين أداروا هذه المعجزات. ولكن توزيع المخاطر لا يلغيها. وحقيقةُ إمكانية توزيعها على نطاقٍ واسعٍ جدًا يشجّع محليًا على تصرّفاتٍ أكثر مخاطرةً، لأنَّ المسؤولية يمكن نقلها إلى مكانٍ آخر. دونَ ضوابط تقييم مخاطر، تحوَّلت موجة الأمولة هذه الآن إلى ما يسمى أزمة الرهن العقاري وقيمة أصول الإسكان. تركَّز الانهيار بادئًا في المدن الأمريكية وحواليها، بتداعياتٍ شديدة بالتحديد على ذوي الدخل المحدود من الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية القاطنين داخل المدن والأسر التي تُعولها النساء العازبات. وكان لها أثرٌ على أولئك المُجبَرين على السكن قُرْبَ هوامش المدن، لعجزهم عن تحمّل أسعار المنازل المتصاعدة في المراكز المدينية في الجنوب الغربي بالتحديد، فهم هنا قطنوا مشاريع الإسكان المنزلية المُموَّلة بالمضاربات بأسعارٍ فائدة بسيطة بادئًا، ولكنهم بعدئذٍ واجهوا تكاليف تنقل متصاعدة مع ارتفاع أسعار النفط، ومدفوعات رهونٍ متضخمة مع دخول أسعار السوق حيز التنفيذ.

تهدد الأزمة الحالية، بداعياتها المحلية الوحشية على الحياة والبنى التحتية المدينية، هيكلَ النظام المالي العالمي بمجمله وقد تؤدي لاندلاعِ ركود معتبر. إنَّ التشابهات مع السبعينات مُدهشة – منها استجابة الاحتياطي الفدرالي بسياسة نقدية ميسرة في 2007-2008، والتي ستولِّدُ بالتأكيد موجات تضخمٍ قوية وجامحة، إن لم يكن ركودًا تضخميًا، في المستقبل غير البعيد. ولكن الوضع اليوم أكثر تعقيدًا بكثير، بل إنَّ مسألة ما إذا كانت الصين قادرة على التعويض عن انهيارٍ كبير في الولايات المتحدة مسألةٌ غير محسومة، فحتى وتيرة التمدين في الجمهورية الشعبية يبدو أنَّها دخلت طور التباطؤ، والنظام المالي أصبح الآن أكثرَ تداخلًا من أيِّ وقتٍ مضى، فالمتاجرة الحاسوبية ذات السرعة اللحظية تحمل خطر خلق تشعّبٍ كبير في السوق – فها هي تُنتِج قابلية تذبذبٍ مهولة في سوق الأسهم – سيُعجِّلُ أزمة ضخمة، مما سيتطلب إعادةَ تفكيرٍ كلية بكيفية عمل رأس المال المالي والأسواق النقدية، بما في ذلك علاقتها بالتمدين.

الملكية والتهدين

كما في كل المراحل السابقة، هذا التوسيع الأخير للعملية المدينية جلب معه تغييراتٍ مهولة في أسلوب الحياة، فجودةُ الحياة المدينية أصبحت سلعة، وكذلك المدينة ذاتها، في عالمٍ أصبحت فيه الاستهلاكية والسياحة والقطاعات الثقافية والمعرفية جوانبًا رئيسة للاقتصاد السياسي المَديني. تُغلِّفُ النزعة ما بعد الحداثية لتشجيع تشكيل أسواقٍ متخصصة – في كلٍّ من عادات المستهلكين وشتى الأشكال الثقافية – التجربةَ المدينية المعاصرة بهالةٍ من حرية الاختيار، ذلك إن امتلكت المال الكافي. تنتشر مراكز التسوق والسينما متعددة القاعات والمتاجر الصغيرة ومعها مطاعم الأكلات السريعة والمتاجر الحِرفيّة. لدينا الآن ما تسميه عالِمة الاجتماع المَديني شارون زوكين «التهدين بالكابتشينو» (pacification by cappuccino). حتى نمو المبتذل والرتيب لصفيف منازل الضواحي، الذي ما زال مهيمنًا على مناطق عدة، يتلقى ترياقه في حركة «التمدين الجديد» التي تحفز بيع أساليب الحياة المستندة على الحارات والدكاكين لتحقيق الأحلام المدينية. ذلك عالمٌ أصبحت فيه القيم الخُلُقية النيوليبرالية مِنْ فردانية تَمَلُّكية مستحكمة، وما يجانسها من انحسابٍ سياسي من أشكال النشاط الجمعية، نموذجَ التعاشُر الإنساني. تصبح المصلحة في الدفاع عن قيم العقارات ذات أهمية سياسية كبرى حتى أنَّ رابطات مُلَّاك المنازل في ولاية كاليفورنيا، كما يشير مايك ديفس، أصبحت معاقل الرجعية السياسية، بل وفاشستيّة أحياءٍ مشرذمة.

نعيش اليوم أكثر فأكثر في مناطق مدينية معرَّضة للأزمات والصراعات. ففي العقود الثلاثة الماضية، أعاد التوجه النيواليبرالي القوة الطبقية للنخب الغنية. أنتجت المكسيك أربعةُ عشر ملياردير منذئذٍ، وفي عام 2006 أخرجت البلد اللاتينية تلك أغنى رجلٍ في العالم، كارلوس سليم، وأما مداخيل فقرائها في ذات الفترة إمَّا ظلت كما هي أو تدنّت. كان لنتائج تلك التغيرات أثرٌ دائم على الأشكال الحيزيّة لِمُدنِنا، والتي أصبحت مُكوَّنةً بتزايد من جزيئاتٍ مُحصَّنة وأحياءٍ مسوّرة وفضاءاتٍ عامة مُخصخصة خاضعة لرقابة دائمة. أمّا في العالم النامي بالتحديد، حدث، وفق مارسيلو بابلو، التالي:

إن المدينة في طور انقسام إلى أجزاءٍ مختلفة منفصلة، معها التشكُّل الظاهري للعديد من «الدويلات». تتشابك الأحياء الغنية حيث تتوفر مجمل أشكال الخدمات، كالمدارس الحصرية وملاعب الغولف والتنس الأرضي والشرطة الخاصة، مع أحياءٍ غير قانونية حيث لا يتوفر الماء إلّا في نوافير الشرب العامة، ولا توجد أنظمة صرفٍ صحي، وأمّا الكهرباء فتقرصِنُها قلِةٌ محظوظة، والشوارع تتحول لتياراتِ طين متى ما أمطرت، وحيث مشاركةُ العوائل منزلًا واحدًا هي القاعدة لا الاستثناء. كُلُّ جزيءٍ يبدو وكأنُّه يعيش وينشط باستقلالية عن الآخر، متمسِّكًا بشدّة لما تمكَّن من القبض عليه في الصراع اليومي للبقاء.

في ظل هذه الظروف، تصعبُ استدامة مُثُل الهوية والمواطنة والانتماء المَدينيّ – الواقعة تحت تهديد الانتشار المَرَضي للأخلاقيات النيوليبرالية – أكثر فأكثر، وتُهدِّدُ إعادة التوزيع المُخصخصة للثروة عبر النشاط الإجرامي الأمانَ الفردي عند كلِّ زاوية، مما يحفِّزُ المطالبة الشعبية بالقمع البوليسي. في هذا السياق حتى فكرة كون المدينة قد تعمل كجسدٍ سياسي جمعي، موقعًا يمكن أنْ تنبع من داخله الحركات الاجتماعية التقدمية، تبدو أمرًا غير معقول. ولكن هنالك حركاتٌ اجتماعية مدينية تسعى للتغلب على هذا العزل وإعادة تشكيل المدينة بصورةٍ مختلفة عن تلك التي قدَّمها القائمون على التنمية، المدعومون برأس المال المالي الشركاتي وجهازُ دولةٍ محلي ذو تفكير تجاري.

السَّلب

لامتصاصِ الفائض عبر التحويل المَديني جانبٌ أكثر ظلامًا. ترتَّب عليه صولاتٌ متكررة من إعادة الهيكلة المدينية عبر «الهدم الخلاق»، وهو فعلٌ دائمًا ما تضمن بُعدًا طبقيًا إذ أنّ الفقراء والأقل حظًا والمهمشّون من القوة السياسية هم أول وأكثر مَنْ يتضرّرون مِنْ هذه العملية. والعُنفٌ أمرٌ ضروريٌ لبناء هذا العالم المَديني الجديد على أنقاض ذلك القديم. شقَّ هوسمان طريقه عبر الأحياء الباريسية الفقيرة القديمة، مُستخدمًا قوى المصادرة باسم التحسين والترميم المدني، وخطّطَ عمدًا لإزاحة وإخراج غالبية الطبقة العاملة وغيرها من العناصر الفوضوية من وسط المدينة، حيث شكَّلوا تهديدًا للنظام العام والسلطة السياسية، وخلق شكلًا مدينيًا حيث اعتُقِدَ (خطأً، كما تبين في 1871) أنَّ ما يكفي من مستويات الرقابة والتحكم العسكري يمكن تحصيلها لضمان سهولة قمع الحركات الثورية وإخضاعها. رغم ذلك، وكما أشار إنجلز في 1872:

في الواقع، ليس لدى البورجوازية إلّا وسيلة واحدة لحل مسألةٍ الإسكان وفق ما يلائمها، أي بعبارةٍ أخرى: حلِّها بطريقة يُعيد الحل بها إنتاج المسألة مُجدّدًا وباستمرار. هذه الوسيلة تُسمّى وسيلة «هوسمان»…مهما تنوَّعت الأسباب، النتيجة ستظل مثلما هي: ستختفي الأزقة والممرات الفاضحة وستتفاخر البورجوازية وتثني على نفسها لهذا الإنجاز العظيم، ولكنَّ هذه الأزقة وتلك الممرات ستبرزُ مجددًا ومباشرةً في مكانٍ آخر…فالضرورة الاقتصادية عينها التي أنتجتها في المكان الأول، ستُنتِجها في المكان التالي.

تطلَّب الأمر أكثر من مئة سنة لإكمال برجزة[4] وسط باريس، ونشهد عواقب ذلك في السنوات الأخيرة من انتفاضاتٍ وفوضى في تلك الضواحي المعزولة، شَرْكُ المهمّشين من مهاجرين وعاطِلين عن العمل وشباب. النقطة المُحزِنة هنا، بالطبع، هي أنَّ العملية التي يصفها إنجلز تتكرر مرارًا على مر التاريخ، فروبرت موزيس «أَخَذَ ساطور اللحم إلى البرونكس»، وفق عبارته سيئة السمعة، مُسبِّبًا نواحًا وآهاتٍ صاخبة من جماعات وحركات الأحياء. في حالتي باريس ونيو يورك، متى ما تمّت مقاومة واحتواء قوة المصادرة الخاصة بالدولة بنجاح، استحكمَ تغيّرٌ أكثرُ غدرًا وسرطانية عبر الانضباط المالي للمحافظات ومضاربة العقار وفرز وتصنيف استخدام الأراضي وفق معدل العائد من «أعلى وأفضل استخدام». ألمَّ إنجلز فهمًا بهذا التسلسل:

يعطي نموُّ المدن الكبيرة الحديثة الأراضي في مناطق معينة، بالتحديد تلك المناطق الواقعة في المركز، قيمةً متزايدة اصطناعيًا وعلى نحوٍ هائل: المباني المشادة في هذه المناطق تخفض هذه القيمة بدل زيادتها، لأنها لا تظل منتميةً للظروف المتغيرة. تُهدَمُ هذه المباني وتستبدلها أخرى. يحدث ذلك على نحو أساسي لمنازل العمال حيث تقع في المركز وإيجارها، مهما تعاظم الاكتظاظ السكاني، لا يمكن أن يتجاوزَ أبدًا – أو إلَّا ببطءٍ شديد – حدًّا معيّنًا. تُهدَمُ هذه المنازل ومكانها تشيّدُ متاجر ومستودعات ومبانٍ عامة.

رغم أنَّ هذا الوصف قد كُتِبَ في عام 1872، فهو ينطبق مباشرةً على التنمية المدينية في أغلب آسيا – دلهي، سيول، مومباي – وعملية الاستطباق[5] في نيو يورك أيضًا. تقعُ عمليّةُ طردٍ وما أسميه بـ «المراكمة عبر السَّلب» في جوهر العملية المدينية في ظل الرأسمالية. إنَّها صورةٌ مطابقة لامتصاص رأس المال عبر إعادة التنمية المدينية، وهي تُنتِجُ صراعاتٍ عديدة حول الاستيلاء على الأراضي القيِّمة من السكان محدودي الدخل بعضهم عاشوا هناك لسنين طويلة.

أنظر مثال سيول في تسعينات القرن الماضي: وظَّفت شركات البناء والتطوير العمراني فرق بلطجية تقتحم الأحياء على جانب التلال، ولم تكتفي تلك الفرق بتدمير بيوت من بنوا منازلهم في الخمسينات على أراضٍ أصبحت ذات قيمة عالية، بل حتى كامل ممتلكاتهم. تغطِّي الأبراج الشاهقة، التي تخفي كلَّ آثار الوحشية التي سمحت ببنائها، أغلب جوانب التلال تلك. بينما في مومباي، يقطن ستة ملايين ممن يُعتبرون رسميًا سكّان عشوائيات على أراضٍ دونَ صكٍّ قانوني، وكلُّ خرائط المدينة ترسم هذه المناطق كمناطق فارغة. ومع محاولة تحويل مومباي على مركزٍ مالي عالمي ينافس شانغهاي، ازدادت وتيرة طفرة تنمية العقار ويبدو أنَّ الأراضي التي يقطنها سكان العشوائيات تزداد قيمة. تُقدَّرُ قيمة دارافي، وهي أحد أكبر العشوائيات في مومباي، بحوالي 2 مليار دولار، والضغوطاتُ لإخلائها – لأسبابٍ بيئية واجتماعية تقنِّعُ مصادرة الأراضي – تتزايد يوميًا، فالقوى المالية، بدعمٍ من الدولة، تضغط من أجل إخلاءٍ قسري للعشوائيات، إذ في بعض الحالات تستحوذ بالعنف على أراضٍ ترعرع فيها جيلٌ كامل من الناس. تزدهر بذلك مراكمة رأس المال عبر النشاط العقاري، إذ أنَّ الأراضي تُقتنَى دون مقابل تقريبًا.

هل سيحصل أولئك المطرودون على تعويض؟ سيحصل المحظوظون منهم على القليل. ولكن بينما الدستور الهندي ينصُّ أنَّ الدولة تلتزم بحماية حياة ورفاهية كامل السكان، مهما كانت الطائفة أو الطبقة، وتضمن حقوقهم في المسكن والمأوى، أصدرت المحكمة العليا أحكامًا تعيد صياغة هذا الالتزام الدستوري. كونُ سكّان العشوائيات يسكنونها على نحوٍ غير قانوني والعديد منهم لا يمكن لهم إثبات سكنهم الدائم هناك قطعًا، ليس لديهم أيُّ حقٍ في الحصول على تعويض. إنَّ الإقرار بتعويضهم كحق، تشير المحكمة العليا، سيكون بمثابة مكافأة النشّالين على فعلتهم. إذًا فعلى سكّان العشوائيات إمّا أن يقاوموا ويكافحوا، أو ينقلون ممتلكاتهم القليلة ليخيِّموا على جوانب الطرق السريعة أو أينما وجدوا حيزًا صغيرًا. ويمكن أن نجد أمثلة على السَّلب في الولايات المتحدة الأمريكية، رغم أنّها هنا عادةً أقلُّ وحشيةً وأكثر قانونيّة: أسيء استعمال حقّ الحكومة في الاستملاك للمنفعة العامة من أجل طردٌ قاطنين قدامى في إسكانٍ معقول لصالح استخداماتٍ ذات ترتيبٍ أعلى، مثل الشقق الخاصة والمتاجر الصغيرة. وحين تم تحدي هذا الفعل في المحكمة العليا الأمريكية، حكم القضاة أنّه من الدستوري أن تتصرف السلطات القضائية المحلية بهذه الطريقة من أجل زيادة قاعدة ضريبتها العقارية.

في الصين، انتُزِعت مساكنٌ من ملايينٍ قطنوها لفترات طويلة؛ ثلاثة ملايين في بكين وحدها. ولأنهم يفتقرون لحقوق الملكية الخاصة، يمكن للدولة أن تزيحهم بمجرد إصدار قرار، موفّرةً لهم مبلغًا نقديًا زهيدًا ليساعدهم في طريقهم قبل أن تُعطَى الأراضي لمطوِّرين بربحٍ عالي. في بعض الحالات، ينتقل الناس طواعية، ولكن هنالك تقارير عن وجود مقاومة واسعة الانتشار، ويستجيب الحزب الشيوعي عادةً بقمعٍ وحشي. في جمهورية الصين الشعبية، غالبًا ما يُستهدَف سكان الهوامش الريفية، مما يؤكد أهمية كلمة لوفيفر البصيرة التي قالها في الستينات، حول كون التمايز الواضح الذي تواجد يومًا ما بين الريفي والمديني سيختفي ويتحول إلى حزمة حِيازٍ مسامية الحجم من نمو جغرافي غير متكافئ تحت السيادة المهيمنة لرأس المال والدولة. وهكذا هي الحال أيضًا في الهند، حيث الحكومة المركزية وحكومات الولايات تفضل الآن تأسيس مناطق اقتصادية خاصة – فرضيًا للتنمية الصناعية، رغم أنَّ أغلب الأراضي تخصص للتوسع المديني. أدت هذه السياسة لمعارك حادة ضد المنتجين الزراعيين، أبشعها المجزرة في نانديغرام في بنغال الغربية في مارس/آذار التي ارتكبتها حكومة الولاية الماركسية. أرسل الحزب الشيوعي الهندي، لعزمه على فتح الأراضي لمجموعة سليم، وهي شركة إندونيسية كبرى، شرطةً مسلحة لتفرقة القرويين المتظاهرين، قُتِل أربعة عشر شخصًا على الأقل رميًا بالرصاص وأصيب عشرات. لم يوفر وجود حقوق الملكية الخاصة في هذه الحالة أيَّ حماية.

ماذا عن المقترح التقدمي ظاهريًا القائل بمنح حقوق الملكية الخاصة لسكان العشوائيات، مما يوفر لهم الأصول التي ستسمح لهم بالخروج من الفقر؟ مثل هذه الخطة طُرِحت الآن كحل لعشوائيات (فافيلاس) ريو دي جانيرو مثلًا، ولكن المشكلة تكمن في أنَّ الفقراء، المثقلين بانعدام الأمان في الدخل والصعوبات المالية المتكررة، يمكن إقناعهم بسهولة بتبديل تلك الأصول مقابل دفعة نقدية زهيدة نسبيًا. يرفض الأغنياء عادةً التخلي عن أصولهم القيمة مهما كان الثمن، ولهذا السبب يمكن لموزيس أخذ ساطور اللحم للبرونكس ذات الدخل المحدود وليس لجادة بارك الثرية. كان الأثر المستمر لسياسة مارغريت ثاتشر القائمة على خصخصة الإسكان الاجتماعي في بريطانيا خلقُ هيكل إيجاراتٍ وأسعار في كامل أرجاء حاضرة لندن يستثني محدودي الدخل وحتى الطبقة الوسطى من الحصول على سكنٍ في أيِّ مكانٍ قريبٍ من المركز المديني. أراهن أنَّه خلال خمسة عشر سنة، إن استمر التوجه الحالي، ستملأُ كل تلك التلال في ريو التي تحتلها العشوائيات الآن مبانٍ شققية شاهقة بمنظرٍ خلاب يطل على الشاطئ الهادئ بينما سكان العشوائيات سيرمى بهم إلى هامشٍ بعيدٍ ما.

صياغة المطالب

يمكننا أن نستنتج أن التمدين لعب دورًا حيويًا في امتصاص فوائض رأس المال، بمستوياتٍ جغرافية متزايدة أبدًا، إنما بسعر عمليات الهدم الخلاق المتزايدة التي حرمت الجماهير من أيِّ حقٍّ في المدينة أيًّا كان. يتصادمُ الكوكب كموقع بناءٍ مع «كوكب العشوائيات». ينتهي هذا الأمرُ ما بين فترةٍ والأخرى بانتفاضة، مثل ما حصل في باريس في 1871 أو الولايات المتحدة بعد اغتيال مارتن لوثر كينغ في 1968. إن تزايدت الصعوبات المالية ووصلت مرحلة استيعاب فائض القيمة الرأسمالي النيواليبرالية، الما بعد حداثية، الاستهلاكية، والناجحة حاليًا إلى نهايتها واندلعت أزمةٌ أكبر، تُطرَحُ مسألةٌ إذًا: أين هي 68 الخاصة بنا؟ أو بالتحديد، أين هي نسختنا من الكمونة؟ مثلما هو الأمر مع النظام المالي، يحتم على الجواب أن يكون أكثر تعقيدًا بكثير بالتحديد لأنَّ العملية المدينية الآن عالمية في حجمها. إنَّ علامات الانتفاضة في كل مكان: الاضطراب في الصين والهند أمرٌ مزمن، والحروب الأهلية تعوم أفريقيا، وأمريكا اللاتينية في حالة تخمُّر. أيٌّ من هذه الانتفاضات قد تصبح معدية. ولكن على عكس النظام المالي، إنَّ الحركات الاجتماعية المعارِضة المدينية وتلك شبه المدينية، وهنالك العديد منها في أرجاء العالم، ليست مترابطة ارتباطًا وثيقًا، بل إنَّ أغلبها لا تتصل ببعضها بعضًا. إنْ ترابطت هذه الحركات على نحوٍ ما، فما الذي يجب عليها المطالبة به؟

الجواب على السؤال الأخير بسيطٌ بما فيه الكفاية من ناحية مبدئية: تحكّمٌ ديموقراطي أكبر بإنتاج الفائض وتوظيفه. بما أنَّ العملية المدينية قناةٌ رئيسةٌ لاستخدام الفائض، تأسيسُ إدارةٍ ديموقراطية على توظيفها المديني يشكّل الحق في المدينة. طوال التاريخ الرأسمالي، فُرِضت ضرائب على جزءٍ من فائض القيمة، وفي المراحل الديموقراطية الاجتماعية ارتفع مقدار ذلك الواقع تحت تصرف الدولة ارتفاعًا معتبرًا. توجّهَ المشروع النيوليبرالي طوال ثلاثين عامًا مضت نحو خصخصة ذلك التحكم. ولكنَّ بيانات كل بلدان منظمه التعاون الاقتصادي والتنمية تبيّن أنَّ حصة الدولة من الناتج الإجمالي ظلَّت ثابتة تقريبًا منذ السبعينات. إنَّ الإنجاز الرئيس للهجمة النيوليبرالية، إذًا، كان في منع توسُّع الحصة العمومية مثلما حصل في الستينات. خلقت النيوليبرالية أيضًا أنظمة حوكمة جديدة تدمج مصالح الدولة والشركات، وعبر تطبيق قوّة المال، ضمنت أنَّ توزيع الفائض من خلال جهاز الدولة يعطي الأفضلية لرأس المال الشركاتي والطبقات العليا في تشكيل العملية المدينية. إنَّ زيادةَ الحصة من الفائض التي تمسكها الدولة لن يكون له أثرٌ إيجابي إلَّا أن أعيدت الدولة ذاتها إلى التحكّم الديموقراطي.

نرى الحق في المدينة يقع بتزايد في أيدي مصالح خاصة أو شبه خاصة. في نيو يورك على سبيل المثال، يعيد المحافظ الملياردير، مايكل بلومبيرغ، تشكيل المدينة وفق خطوطٍ مؤاتية للمطوِّرين و«وول ستريت» وعناصر الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود الوطنية، ويروّج للمدينة كالموقع الأمثل للشركات عالية القيمة وكوجهةٍ خيالية للسياح. إنَّهُ، عمليًا، يحوّلُ منهاتن إلى حيِّ ضخمٍ مسوّر خاصٍ للأغنياء. وفي مدينة المكسيك، حوّلَ كارلوس سليم شوارع وسط المدينة لتناسب أنظارَ السياح. وليس الأفرادُ الأثرياء وحدهم من يمارسون قوّةً مباشِرة، ففي مدينة «نيو هيفن» على سبيل المثال، وهي مدينةٌ تعاني من شحّ الموارد لإعادة الاستثمار المديني، إنَّ جامعة ييل ذاتها –إحدى أغنى الجامعات في العالم – هي من تعيد تصميم النسيج المديني ليناسب حاجاتها. وجامعة جون هوبكينز تقوم بالشيء ذاته في بالتيمور الشرقية، وكذلك تخطّط جامعة كولومبيا في مناطق من نيو يورك، مما أشعل حركاتِ مقاومة في الأحياء في كل الحالتين. إنَّ الحق في المدينة، وفق تشكيلته الحالية، مقيّدٌ بشدة، ومحصورٌ في أغلب الحالات لدى نخبة سياسية واقتصادية صغيرة تحتل مكانةً تمكّنها من تشكيل المدن أكثر فأكثر وفق رغباتها.

في كل يناير/كانون الثاني، ينشر مكتب مدقّق حسابات ولاية نيو يورك تقديرًا لمجمل مكافآت «وول ستريت» خلال السنة الماضية. في 2007، وهي سنةٌ كارثية للأسواق المالية بأيِّ مقياس، كان مجملها 33.2 مليار دولار، أيّ أقل بـ 2 بالمئة فقط من السنة السابقة. في منتصف صيف 2007، صبّ الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي ديونًا قصيرة المدى تقدر بمليارات الدولارات في النظام المالي لضمان استقراره، وقام الاحتياطي الفيدرالي بعد ذلك بتخفيض أسعار الفائدة أو ضخَّ كميّاتٍ ضخمة من السيولة كلَّ مرة هدَّد مؤشر الداو بالانخفاض انخفاضًا حادًا. في تلك الأثناء، كان هنالك مليونا شخص إمَّا مشرَّدون أو سيشرِّدهم حبس الرهن العقاري. طُرِد سكّانُ العديد من أحياءُ المدن، وحتى مجتمعاتٌ كاملة تقطن حواف المدن في الولايات المتحدة وأغلقت منازلهم/ن، وبعثرتهم/ن ممارسات الإعارة الافتراسية الخاصة بالمؤسسات المالية. وهذا الفئة لن تصلها أيُّ مكافآت. حقًا، بما أنَّ حبس الرهن العقاري معناه الإعفاء من الديون، وهو أمرٌ يعتبر دخلًا في الولايات المتحدة، يواجه العديد ممن شُرِّدوا ضريبة دخلٍ عالية على أموالٍ لم يملكوها أبدًا. عدمُ التكافؤ هذا لا يمكن تفسيره إلَّا كشكلٍ ضخم من أشكال المواجهة الطبقية. إنَّ «عاصفة كاترينا المالية» تتكشف، مما يهدد بمحو أحياء محدودي الدخل الواقعة على أراضٍ ذات قيمة عالية في العديد من مناطق وسط المدينة على نحوٍ أنجع وأسرع مما قد يحقّقه نزع الملكية للمنفعة العامة، وهو أمرٌ مؤاتٍ جدًا للمطورين.

ولكننا لم نرى بعد معارضةً متماسكة لهذه التطورات في القرن الواحد والعشرين. هنالك بالطبع عديدٌ من الحركات الاجتماعية المتنوعة التي تركز على المسألة المدينية – من الهند والبرازيل وحتى الصين وإسبانيا والأرجنتين والولايات المتحدة. في عام 2001، أُدخِل «تعديل المدينة» على الدستور البرازيلي بعد ضغوطاتٍ من حركاتٍ اجتماعية ليُقِرَّ بالحق الجماعي في المدينة. في الولايات المتحدة، هنالك مطالباتٌ لتحويل حزمة الإنقاذ المقدرة بـ 700 مليار دولار للمؤسسات الصناعية إلى بنك إعادة إعمار يساعد على منع حجز الرهن العقاري وتمويل مساعي إعادة إحياء الأحياء وتجديد ال

ثيمات
• أخرى
• الحق في المدينة
• الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
• الحوادث
• الخدمات الأساسية
• السياسات العامة
• حملة تضامنية
• محدودي الدخل